فضائل مصر ومزايا أهلها
إنه ليصعب على المرء أن يكتب في فضائل مصر ومزايا أهلها، ذاك أن هذا الموضوع بحر خضم لا يُدرك قعره، وأمر مهول لا يمكن ولا يستطاع؛ فكم لمصر وأهلها من فضائل ومزايا تندّ عن الحصر، وتخرج عن قدرة العادّين! وكم لها من تاريخ في الإسلام عظيم، منذ أن وطئتها أقدام الأنبياء الطاهرين، والمرسلين المكرمين!
لكن يصح لمثلي أن يغترف من البحر؛ ليأتي بشيء نَزْر، دلالةً للمستدلين، وعونًا للباحثين، وقيامًا بحق أهل مصر.
الأنبياء في مصر
أما أهل مصر فيكفيهم شرفًا وفخرًا سكنى الأنبياء بين ظهرانيهم، ومرورهم ببلادهم، فهذا الخليل إبراهيم شيخ الموحدين وأفضل المرسلين بعد نبينا العظيم -عليهما أفضل الصلوات وأتم التسليم- قد مرَّ بمصر في رحلته مع زوجه سارة، وجرى لهما مع جبار مصر ما جرى، مما ورد في صحيح الإمام البخاري لمن أراد الرجوع إلى القصة.
ودخلها يعقوب عليه الصلاة والسلام، ودخلها الأسباط مرارًا، وتُوُفُّوا ودُفنوا بها.
وسكن مصرَ يوسف -عليه الصلاة والسلام- ونال بها من المكانة والجاه ما لم ينله أحد من الأنبياء والمرسلين ومن عداهما في مصر، وشرفت أرض مصر بدفن جسده الطاهر فيها، ثم نُقل بعد ذلك إلى فلسطين زمن موسى -عليه الصلاة والسلام- في قصة جليلة.
وموسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام- وُلِدا في مصر وعاشا فيها طويلاً، وجرى عليهما في أرض مصر ما جرى من الأحداث
العظام، مما قصَّه علينا الله -تعالى- في كتابه الجليل.
ويوشع بن نون فتى موسى وكان نبيًّا -عليه الصلاة والسلام- ولد بمصر، وعاش فيها، وخرج منها مع موسى - عليهما الصلاة والسلام.
وقيل: إن أيوب وشعيبًا وأرميا دخلوا مصر أيضًا -والله أعلم-.
ويكفي المصريين شرفًا وفخرًا أن خير الأنبياء والمرسلين مطلقًا محمدًا وإبراهيم -عليهما أفضل الصلوات والتسليم- كان تحتهما مارية وهاجر المصريتان، فأنجبت الأولى إبراهيم عليه السلام، وأنجبت الأخرى إسماعيل -عليه الصلاة والسلام- وهو جدُّ نبينا صلى الله عليه وسلم، فما أحسن هذا! وما أعظمه!
وقيل: إن يوسف -عليه الصلاة والسلام- صاهر إليهم أيضًا.
وإن يفتخر المصريون بشيء بعد هذا، فحُقَّ لهم أن يفخروا بماء زمزم الذي فُجِّر إكرامًا لهاجر وابنها، فللمصريين فضلٌ في ظهور هذا الماء، والشرف موصول لهم ما بقي هذا الماء على وجه الأرض.
وحَقٌّ على المصريين أن يفخروا بأن هاجر قد خَلَّد الله سعيها بين الصفا والمروة جزاء طاعتها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأوجب على كل رسول ونبي وسائر مَن حج البيت الحرام أن يسعى سعيها، ويجهد جهدها, فما أعظم هذا! وما أحسنه!
ولو لم يكن للمصريين فخر وشرف إلا أن هاجر هي جدة النبي الأعظم المفخّم المكرّم محمد صلى الله عليه وسلم، لكان هذا كافيَهم؛ ولذلك قال فيها أبو هريرة رضي الله عنه: "تلك أمكم يا بني ماء السماء"؛ أي العرب.
ومن المصريات العظيمات أم موسى عليه الصلاة والسلام، وقيل بنُبُوَّتها.
وآسية امرأة فرعون التي ضربها الله -سبحانه وتعالى- مثلاً في كتابه للمؤمنين وأثنى عليها، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها إحدى كوامل النسوة رضي الله عنها، وقيل بنبوَّتها.
ومرت سارة زوج الخليل -صلى الله عليه وسلم- بمصر، ولها قصة فيها وردت في صحيح الإمام البخاري.
ومن المصريات الجليلات ماشطة فرعون، وابنها الذي تكلم في المهد، ولها وله قصة جليلة رائعة.
ومن المصريين مؤمن آل فرعون، وقد شُرف بتخليد صنيعه ودفاعه عن موسى -عليه الصلاة والسلام- والدعوة الإسلامية في كتاب الله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28].
ومن المصريين كذلك، الرجل المؤمن الذي حذر موسى عليه الصلاة والسلام، وورد في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص: 20].
ومنهم السحرة الذين آمنوا بموسى عليه الصلاة والسلام، وكانوا جملة وافرة، وعددًا ضخمًا.
أخلاق أهل مصر
وأهل مصر من ألين الناس تعاملاً، ومن أحسنهم أخلاقًا وأدبًا؛ ولذلك قال تاج الدين الفزاري -رحمه الله تعالى-: "إن من أقام في مصر سنة، وجد في أخلاقه رقةً وحسنًا".
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-: "أهل مصر أكرم الأعاجم كلها، وأسمحهم يدًا، وأفضلهم عنصرًا، وأقربهم رحمًا بالعرب عامة، وبقريش خاصة".
وقال ابن ظهيرة -رحمه الله تعالى- يمدح أهل مصر، ويعدِّد مزاياهم:
"حُسْنُ فَهْمِهم في العلوم الشرعية وغيرها من سائر العلوم، وسرعة تصورهم، واقتدارهم على الفصاحة بطباعهم وعذوبة ألفاظهم ولطافة شمائلهم وحسن وسائلهم - أمر محسوس، غير منكور، تشهد لهم بذلك الناس، حتى إن كل من عرفهم وخالطهم اكتسب من فصاحتهم، واختلس من لطافتهم، وإن كان أعجميًّا قحفًا، أو فلاحًا جلفًا".
ثم مدح أصواتهم فقال: "حَسُن أصواتهم، ونداؤهم، وطيب نغماتهم وشجاها، وطول أنفاسهم وعلاها، فمؤذنوهم إليهم الغاية في الطيب، ووعاظهم ومغنوهم إليهم المنتهى في الإجادة والتطريب".
ثم مدح نساءهم فقال: "نساؤها اللاتي خلقهن الله تعالى للتمتع بهن، وطلب النسل منهن، أرق نساء الدنيا طبعًا، وأحلاهن صورة ومنطقًا، وأحسنهن شمائل، وأجملهن ذاتًا، وخصوصًا المولدات منهن، وهي من يكون أبوها تركيًّا وأمها مصرية، أو بالعكس، وما زلتُ أسمع قديمًا عن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه، ولم أره منقولاً، أنه قال: من لم يتزوج بمصرية لم يكمل إحصانه".
ثم مدح حسن معاملتهم للغرباء فقال: "حلاوة لسانهم، وكثرة ملقهم ومودتهم للناس ومحبتهم للغرباء، ولين كلامهم لهم، والإحسان إليهم، ومساعدتهم لهم على قضاء حوائجهم، ورد ظلاماتهم، ونصرهم على من ظلمهم بحسب استطاعتهم، وقوَّة عصبيتهم لمن أرادوا وإن كانوا في باطل. عدم اعتراضهم على الناس؛ فلا ينكرون عليهم، ولا يحسدونهم، ولا يدافعونهم، بل يسلمون لكل أحد حاله: العالم مشغول بعلمه، والعابد بعبادته".
الصحابة في مصر
هذا وقد سكن مصر بعد فتحها جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشرفت أرض مصر بهم وازدانت، وخالط ترابها أجسادهم الطاهرة، وبعضهم سكنها ومات بغيرها، وبعضهم مَرَّ بها رسولاً أو مجاهدًا، وكان منهم جملة جليلة وعدد كبير عظيم، منهم عمرو بن العاص، وعقبة بن عامر الجهني، وعبد الله بن أبي السرح، ومسلمة بن مخلد، وعبد الله بن عمرو، ومعاوية بن حُديج, وكلهم ولي إمرة مصر.
ومن الصحابة في مصر أيضًا: صلة بن الحارث الغفاري، وعبد الله بن حذافة السهمي، وعبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي، وشهد فتحَ مصر، واختط بها سكنًا، وعاش بها دهرًا، وهو آخر صحابي مات بمصر، وأبو بصرة الغفاري شهد فتح مصر.
وخارجة بن حذافة العدوي، وهو أحد الفرسان الأبطال يُعَدُّ بألف فارس، وأمد به عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عمرو بن العاص رضي الله عنه، وهو الذي قتلته الخوارج؛ ظنًّا منهم أنه عمرو بن العاص رضي الله عنه.
ورويفع بن ثابت الأنصاري. ودخلها جابر بن عبد الله بن حرام رضي الله عنه؛ طلبًا لسماع حديث عظيم جليل. ودِحية بن خليفة الكلبي، وهو الذي كان ينزل جبريل بصورته، وكان له جمال مفرط. والزبير بن العوام -رضي الله عنه- وقد شهد فتح مصر، وهو معدود من الأبطال الكبار.
وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وشهد فتح مصر، ودخلها غير مرة. وسلمة بن الأكوع وهو فارس شجاع رامٍ مشهور. وسهل بن سعد الساعدي، وقدم مصر بعد الفتح.
وعبادة بن الصامت وهو أحد النقباء، وممن شهد بدرًا، وكان من سادات الصحابة وشهد فتح مصر.
وعبد الله بن أُنيس الجهني، وعبد الله بن حوالة الأزدي وشهد فتح مصر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن أبي السرح وشهد فتح مصر، وعبد الله بن عباس وقد دخل مصر لفتوح إفريقية، وعبد الله بن عمر شهد فتح مصر، وعبد الله بن عمرو بن العاص وشهد فتح مصر، وعمار بن ياسر دخل مصر رسولاً، وفضالة بن عبيد الأنصاري وشهد فتح مصر، وقيس بن سعد بن عبادة وشهد فتح مصر وسكن بها، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، والمسيب بن حَزْن -والد سعيد- وقد دخل مصر لغزو إفريقية، ومعاوية بن حُديج السَّكوني وشهد فتح مصر، وأبو إمامة الباهلي وسكن مصر مدةً وتوفي بالشام، وأبو أيوب الأنصاري وقد شهد فتح مصر، وأبو الدرداء وقد شهد فتح مصر، وأبو ذر الغفاري وشهد فتح مصر وسكنها مدةً، وأبو هريرة رضي الله عنه.
وقد تخيرت أشهر الصحابة، وإلاّ فقد بلغوا زُهَاء ثلاثمائة وخمسين رضي الله عنهم.
وولد بها خامس الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين عمر بن عبد العزيز، وكان أبوه عبد العزيز بن مروان واليًا عليها، وكان عمر يحب مصر ويثني عليها، وقد قال له سليمان بن عبد الملك الخليفة الأموي قبله في حادثة جرت لفرس مصرية: لا تترك تعصبك لمصر يا أبا حفص.
التابعون في مصر
أما التابعون فقد سكنها جملة عظيمة منهم -رحمهم الله تعالى- فكان منهم أبو الزناد عبد الرحمن بن هرمز الأعرج (ت 117هـ)، صاحب أبي هريرة -رضي الله عنه- والملازم له.
وحبيب بن الشهيد التجيبي المصري فقيه طرابلس الغرب (ت 109هـ).
وبكير بن عبد الله الأشج المدني الفقيه، نزيل مصر، وهو من ثقات المصريين وقرائهم (ت 122هـ).
ويزيد بن أبي حبيب الأزدي، أبو رجاء المصري، فقيه مصر وشيخها ومفتيها (ت 128هـ)، وكان ثقة كثير الحديث، روى عنه أصحاب الكتب الستة، وكان مفتي أهل مصر، وهو أول من أظهر العلم بمصر والمسائل في الحلال والحرام، وكان أهل مصر قبله إنما يتحدثون في الملاحم والفتن والترغيب، وقال الليث: هو سيِّدنا وعالمنا.
أما تابعو التابعين فمن بعدهم إلى يوم الناس هذا، فجملة هائلة وعدد أكبر من أن يحصيه بشر، لكني سأتخير منهم جماعة أوردهم حسب طبقاتهم وعلومهم وفنونهم في الحلقات القادمات، إن شاء الله تعالى.
المصدر: موقع التاريخ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق